فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
سورة الملك:
{الّذِي خلق الْموْت والْحياة لِيبْلُوكُمْ أيُّكُمْ أحْسنُ عملا وهُو الْعزِيزُ الْغفُورُ (2)}
قوله: {لِيبْلُوكُمْ}: متعلِّقٌ ب {خلق} وقوله: {أيُّكم أحسنُ} قد تقدّم مثلُه في أول هود. وقال الزمخشري هنا: فإنْ قلت: مِن أين تعلّق قوله: {أيُّكُمْ أحْسنُ عملا} بفعلِ البلْوى؟ قلت: من حيث إنّه تضمّن معنى العلمِ، فكأنه قيل: ليُعْلمكم أيُّكم أحسنُ عملا. وإذا قلت: علِمْتُه: أزيدٌ أحسن عملا أم هو؟ كانت هذه الجملة واقعة موقع الثاني مِنْ مفعوليْه، كما تقول: علِمْتُه هو أحسن عملا. فإنْ قلت: أتُسمِّي هذا تعليقا؟ قلت: لا، إنما التعليقُ، أنْ يقع بعده ما يسُدُّ مسدّ المفعوليْن جميعا، كقولك: علِمْتُ أيُّهما عمروٌ، وعلِمْتُ أزيدٌ منطلق؟. ألا ترى أنه لا فصْل بعد سبْقِ أحدِ المفعوليْن بين أنْ يقع ما بعده مُصدّرا بحرف الاستفهامِ وغير مصدّرٍ به. ولو كان تعليقا لافترقتِ الحالتان كما افترقتا في قولك: علِمْتُ أزيد منطلِقٌ، وعلمْتُ زيدا منطلقا.
قلت: وهذا الذي منع تسميته تعليقا سمّاه به غيرُه، ويجعلون تلك الجملة في محلِّ ذلك الاسمِ الذي يتعدّى إليه ذلك الفعلُ، فيقولون في (عرفْت أيُّهم منطلقٌ): إنّ الجملة الاستفهامية في محلِّ نصبٍ لسدِّها مسدّ مفعولِ (عرفْتُ) وفي (نظرْتُ أيُّهم منطلقٌ): إن الجملة في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافض؛ لأنّ (نظر) يتعدّى به.
{الّذِي خلق سبْع سماواتٍ طِباقا ما ترى فِي خلْقِ الرّحْمنِ مِنْ تفاوُتٍ فارْجِعِ الْبصر هلْ ترى مِنْ فُطُورٍ (3)}
قوله: {الذي خلق}: يجوزُ أنْ يكون تابعا للعزيز الغفور نعتا أو بيانا أو بدلا، وأنْ يكون منقطِعا عنه خبر مبتدأ، أو مفعول فعلٍ مقدرٍ.
قوله: {طِباقا} صفةٌ ل {سبع} وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه جمعُ طبق نحو: جبل وجِبال. والثاني: أنه جمعُ طبقة نحو: رقبة ورِقاب. والثالث: أنه مصدرُ طابق يقال: طابق مُطابقة وطِباقا. ثم: إمّا أنْ يجعل نفس المصدرِ مبالغة، وإمّا على حذْفِ مضافٍ أي: ذات طباق، وإمّا أنْ ينتصِب على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ أي: طُوْبِقتْ طباقا مِنْ قولهم: طابق النعل أي: جعله طبقة فوق أخرى.
قوله: {مِن تفاوُتٍ} هو مفعولُ {ترى} و(من) مزيدةٌ فيه. وقرأ الأخوان {تفوُّتٍ} بتشديدِ الواوِ دون ألفٍ. والباقون بتخفيفها بعد ألفٍ، وهما لغتان بمعنى واحدٍ كالتعهُّد والتعاهد، والتظهُّر والتظاهُر. وحكى أبو زيد: تفاوت الشيءُ تفاوُتا بضم الواو وفتْحِها وكسرِها، والقياسُ الضمّ كالتقابُل، والفتحُ والكسرُ شاذان. والتفاوُت: عدمُ التناسُبِ؛ لأنّ بعض الأجزاءِ يفُوت الآخر. وهذه الجملة المنفيةُ صفةٌ مُشايعةٌ لقوله: {طباقا} وأصلُها: ما ترى فيهنّ، فوضع مكان الضميرِ قوله: {خلْقِ الرحمن} تعظيما لخلقِهنّ وتنبيها على سببِ سلامتهن، وهو أنه خلْقُ الرحمن، قاله الزمخشريُّ، وظاهر هذا: أنه صفةٌ ل {طباقا}، وقام الظاهرُ فيها مقام المضمرِ، وهذا إنما نعرِفُه في خبرِ المبتدأ، وفي الصلةِ، على خلافٍ فيهما وتفصيلٍ.
وقال الشيخ: الظاهرُ أنه مستأنفٌ. وليس بظاهرٍ لانفلاتِ الكلامِ بعضِه من بعض.
و{خلْق} مصدرٌ مضافٌ لفاعِله، والمفعولُ محذوفٌ أي: في خلْقِ الرحمنِ السماواتِ، أو كلّ مخلوقٍ، وهو أوْلى ليعُمّ، وإن كان السياقُ مُرْشِدا للأول.
قوله: {فارجع} مُتسبِّبٌ عن قوله: {ما ترى} و{كرّتيْن} نصبٌ على المصدرِ كمرّتيْن، وهو مثنى لا يُراد به حقيقتُه، بل التكثيرُ، بدليلِ قوله: {ينْقلِبْ إِليْك البصرُ خاسِئا وهُو حسِيرٌ} أي: مُزْدجرا وهو كليلٌ، وهذان الوصفان لا يأتيان بنظرتيْن ولا ثلاثٍ، وإنما المعنى كرّات، وهذا كقولهم: لبّيْك وسعْديك وحنانيْك ودواليك وهذاذيْك. لا يُريدون بهذه التثنيةِ شفْع الواحدِ، إنما يريدون التكثير أي: إجابة لك بعد أخرى، وإلاّ تناقض الغرضُ، والتثنيةُ تفيدُ التكثير لقرينةٍ كما يُفيده أصلُها، وهو العطفُ لقرينةٍ كقوله:
لو عُدّ قبرٌ كنت أكرمهم

أي: قبول كثيرة ليتِمّ المدْحُ. وقال ابن عطية: {كرّتيْن} معناه مرّتيِن، ونصبُها على المصدرِ. وقيل: الأُوْلى ليُرى حُسْنُها واستواؤُها، والثانية لتُبْصر كواكبُها في سيْرها وانتهائِها، وهذا تظاهُرٌ يُفْهِمُ التثنية فقط.
قوله: {هلْ ترى مِن فُطُورٍ} هذه الجملة يجوز أن تكون مُعلِّقة لفعلٍ محذوفٍ يدُلُّ عليه {فارْجِعِ البصر} أي: فارْجِعِ البصر فانظر: هل ترى، وأنْ يكون {فارجعِ البصر} مضمّنا معنى انظر؛ لأنه بمعناه، فيكونُ هو المعلّق. وأدغم أبو عمرو لام {هل} في التاء هنا، وفي الحاقة وأظْهرها الباقون، وهو المشهورُ في اللغة.
والفُطور: الصُّدوع والشُّقوق قال:
شققْتُ القلب ثم ذررْتُ فيه ** هواكِ فلِيْط فالتأم الفُطورُ

{ثُمّ ارْجِعِ الْبصر كرّتيْنِ ينْقلِبْ إِليْك الْبصرُ خاسِئا وهُو حسِيرٌ (4)}
قوله: {ينْقلِبْ}: العامّةُ بجزمِه على جوابِ الأمر، والكسائي في روايةٍ برفعِه، وفيه وجهان، أحدهما: أنْ تكون حالا مقدرة. والثاني: أنه على حذفِ الفاءِ أي: فينقلِبْ. وخاسِئا. حال وقوله: {وهو حسيرٌ} حال: إمّا مِنْ صاحبِ الأولى، وإمّا من الضمير المستتر في الحالِ قبلها، فتكونُ متداخلةٌ. وقد تقدّم مادتا {خاسئا} و{حسيرا} في المؤمنين والأنبياء.
{ولقدْ زيّنّا السّماء الدُّنْيا بِمصابِيح وجعلْناها رُجُوما لِلشّياطِينِ وأعْتدْنا لهُمْ عذاب السّعِيرِ (5)}
قوله: {الدنيا}: يعني منكم؛ لأنّها فُعْلى تأنيثُ أفْعلِ التفضيلِ. و{جعلْناها} يجوزُ في الضميرِ وجهان، أحدُهما: أنه عائدٌ على {مصابيح} وهو الظاهر. قيل: وكيفيةُ الرّجْم: أنْ يُؤْخذ نارٌ من ضوءِ الكوكبِ، يُرْمى به الشيطانُ والكوكبُ في مكانِه لا يُرْجمُ به. والثاني: أنّ الضمير يعودُ على السماء والمعنى: منها، لأنّ السماء ذاتها ليست للرُّجوم، قاله الشيخ. وفيه نظرٌ لعدمِ ظهورِ عوْدِ الضميرِ على السماءِ. والرُّجوم: جمعُ رجْم وهو مصدرٌ في الأصل، أُطْلِق على المرْجوم به كضرْبِ الأميرِ، ويجوزُ أنْ يكون باقيا على مصدريتِه، ويُقدّرُ مُضافٌ أي: ذاتُ رُجوم. وجمْعُ المصدرِ باعتبارِ أنواعِه، فعلى الأولِ يتعلّقُ قوله: {للشياطين} بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل رُجوما، وعلى الثاني لا تعلُّق له لأنّ اللام مزيدةٌ في المفعول به، وفيه دلالةٌ حينئذٍ على إعمالِ المصدرِ منونا مجموعا. ويجوزُ أنْ يكون صفة له أيضا كالأولِ فيتعلّقُ بمحذوفٍ. وقيل: الرُّجومُ هنا: الظنونُ والشياطينُ شياطينُ الإِنْسِ، كما قال:
......................... ** وما هو عنها بالحديث المُرجّمِ

{ولِلّذِين كفرُوا بِربِّهِمْ عذابُ جهنّم وبِئْس الْمصِيرُ (6)}
قوله: {ولِلّذِين كفرُواْ}: خبرٌ مقدّمٌ في قراءة العامّةِ، و{عذابُ جهنم} مبتدؤُه. وفي قراءة الحسن والضحاك والأعرج بنصبهِ متعلِّقٌ ب {أعْتدْنا} عطفا على {لهم}، و{عذاب جهنم} عطف على {عذاب السعير} فعطف منصوبا على منصوب، ومجرورا على مجرورٍ، وأعاد الخافض؛ لأنّ المعطوف عليه ضميرٌ. والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي: وبئس المصيرُ مصيرُهم، أو {عذابُ جهنم}، أو {عذابُ السعير}.
{إِذا أُلْقُوا فِيها سمِعُوا لها شهِيقا وهِي تفُورُ (7)}
قوله: {لها}: متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ {شهيقا} لأنه في الأصلِ صفتُه. ويجوزُ أنْ يكون على حذْفِ مضافٍ أي: سمعوا لأهلها. و{وهي تفور} جملة حاليةٌ.
{تكادُ تميّزُ مِن الْغيْظِ كُلّما أُلْقِي فِيها فوْجٌ سألهُمْ خزنتُها ألمْ يأْتِكُمْ نذِيرٌ (8)}
قوله: {تميّزُ}: هذه قراءة العامّةِ بتاءٍ واحدةٍ مخففةٍ. والأصلُ: {تتميّزُ} بتاءيْن وبها قرأ طلحةُ والبزيُّ عن ابنِ كثير بتشديدها، أدغم إحدى التاءيْن في الأخرى، وهي قراءة حسنةٌ لعدمِ التقاء ساكنين، بخلافِ قراءته {إِذْ تلقّوْنهُ} [النور: 15] و{نارا تلظى} [الليل: 14] وبابِه. وأبو عمرو يُدْغِمُ الدال في التاءِ على أصلِه في المتقاربيْنِ. وقرأ الضحاك {تمايزُ} والأصل: تتمايزُ بتاءيْن فحذف إحداهما. وزيد بن علي {تمِيْزُ} مِنْ ماز، وهذا كلُّهُ استعارةٌ مِنْ قولهم: تميّز فلان من الغيظِ أي: انفصل بعضُه من بعض من الغيظ ف (من) سببيّةٌ أي: بسببِ الغيْظِ. ومثلُه قول الراجزِ في وصف كلْبٍ اشتدّ عدْوُه:
يكادُ أنْ يخرج مِنْ إهابِهْ

قوله: {كُلّما أُلْقِي} قد تقدّم الكلامُ على {كلما} وهذه الجملة يجوزُ أنْ تكون حالا مِنْ ضميرِ {جهنّم}.
{قالوا بلى قدْ جاءنا نذِيرٌ فكذّبْنا وقُلْنا ما نزّل اللّهُ مِنْ شيْءٍ إِنْ أنْتُمْ إِلّا فِي ضلالٍ كبِيرٍ (9)}
قوله: {بلى قدْ جاءنا نذِيرٌ}: فيه دليلٌ على جوازِ الجمعِ بين حرفِ الجوابِ ونفسِ الجملة المجابِ بها، إذ لو قالوا: بلى لفُهِم المعنى، ولكنهم أظهروه تحسُّرا وزيادة في تغمُّمِهم على تفريطهِم في قبولِ قول النذيرِ ولِيعْطِفوا عليه قولهم: {فكذّبْنا} إلى آخره.
وقوله: {إِنْ أنتُمْ إِلاّ فِي ضلالٍ} ظاهرُه أنه مِنْ مقول الكفارِ للنذير. وجوّز الزمخشريُّ أنْ يكون مِنْ كلامِ الرسلِ للكفرةِ، وحكاه الكفرةُ للخزنةِ أي: قالوا لنا هذا فلم نقْبلْه.
{فاعْترفُوا بِذنْبِهِمْ فسُحْقا لِأصْحابِ السّعِيرِ (11)}
وقوله: {بِذنبِهِمْ}: وحده لأنه مصدرٌ في الأصلِ، ولم يقْصِدِ التنويع بخلافِ {بذنوبهم} في مواضع.
قوله: {فسُحْقا} فيه وجهان أحدُهما: أنّه منصوبٌ على المفعولِ به أي: ألزمهم اللّهُ سُحْقا. والثاني: أنّه منصوبٌ على المصدرِ تقديرُه: سحقهم اللّهُ سُحْقا، فناب المصدرُ عن عامِله في الدُّعاءِ نحو: جدْعا له وعقرا، فلا يجوزُ إظهارُ عامِلِه.
واختلف النحاة: هل هو مصدرٌ لفعلٍ ثلاثيّ أم لفعلٍ رباعي فجاء على حذْفِ الزوائدِ؟ فذهب الفارسيُّ والزجّاجُ إلى أنه مصدرُ أسْحقه اللّهُ أي: أبعده. قال الفارسي: فكان القياسُ إسْحاقا، فجاء المصدرُ على الحذْفِ كقوله:
فإن أهْلِكْ فذلك كان قدْري

أي تقديري. والظاهرُ أنه لا يُحتاج لذلك؛ لأنه سُمع: سحقه اللّهُ ثلاثيا. وفيه قول الشاعر:
يجولُ بأطرافِ البلادِ مُغرِّبا ** وتسْحقُه ريحُ الصّبا كلّ مسْحقِ

والذي يظهرُ أنّ الزجّاج والفارسيّ إنما قالا ذلك فيمْن يقول مِن العربِ أسْحقه الله سُحْقا.
وقرأ العامّةُ بضمةٍ وسكونٍ، والكسائيُّ في آخرين بضمتين، وهما لغتان. والأحسنُ أنْ يكون المثقّلُ أصلا للخفيفِ. وقوله: {لأصحاب} بيانٌ ك {هيْت لك} [يوسف: 23] وسقْيا لك. وقال مكي: والرفعُ يجوز في الكلامِ على الابتداء. أي: لو قيل: (فسُحْقٌ) جاز لا على أنه تلاوةٌ بل من حيث الصناعةُ، إلاّ أنّ ابن عطية قد قال ما يُضعِّفُه، فإنه قال: فسُحْقا نصبا على جهةِ الدعاءِ عليهم، وجاز ذلك فيه وهو مِنْ قِبل اللّهِ تعالى من حيثُ هذا القول، فيهم مستقرٌ أوّلا، ووجودُه لم يقعْ، ولا يقعُ إلاّ في الآخِرة، فكأنه لذلك في حيِّز المتوقّع الذي يُدّعى فيه كما تقول: (سُحْقا لزيدٍ، وبُعْدا له) والنصبُ في هذا كلِّه بإضمار فعلٍ، وأما ما وقع وثبت فالوجهُ فيه الرفعُ، كما قال تعالى: {ويْلٌ لِّلْمُطفِّفِين} [المطففين: 1] {سلامٌ عليْكُم} [الرعد: 24] وغيرُ هذا مِن الأمثلة. انتهى. فضعّف الرفع كما ترى لأنه لم يقعْ بل هو متوقّعٌ في الآخرةِ.
{إِنّ الّذِين يخْشوْن ربّهُمْ بِالْغيْبِ لهُمْ مغْفِرةٌ وأجْرٌ كبِيرٌ (12)}
قوله: {لهُم مّغْفِرةٌ}: الأحسنُ أنْ يكون الخبر {لهم} و{مغفرةٌ} فاعلٌ به؛ لأن الخبر المفرد أصلٌ، والجارُّ من قبيل المفرداتِ أو أقربُ إليها.
{ألا يعْلمُ منْ خلق وهُو اللّطِيفُ الْخبِيرُ (14)}
قوله: {منْ خلق}: فيه وجهان، أحدُهما: أنه فاعلُ {يعْلمُ} والمفعول محذوفٌ تقديرُه: ألا يعلم الخالقُ خلْقه، وهذا هو الذي عليه جمهورُ الناسِ وبه بدأ الزمخشريُّ. والثاني: أنّ الفاعل مضمرٌ يعود على الباري سبحانه وتعالى، و(من) مفعولٌ به أي: ألا يعلمُ اللّهُ منْ خلقه. قال الشيخ: والظاهر أن (من) مفعولٌ، والمعنى: أينتفي علمُه بمنْ خلقه، وهو الذي لطف عِلْمُه ودقّ. ثم قال: وأجاز بعضُ النّحْويين أنْ يكون (من) فاعلا والمفعولُ محذوفٌ، كأنه قال: ألا يعلم الخالقُ سِرّكم وجهركم، وهو استفهامٌ، معناه الإِنكار. قلت: وهذا الوجهُ الذي جعله هو الظاهر يعْزِيه الناسُ لأهلِ الزّيْعِ والبِدعِ الدافِعين لعمومِ الخلْق لله تعالى.
وقد أطْنب مكي في ذلك، وأنكر على القائلِ به ونسبه إلى ما ذكرتُ فقال: وقد قال بعضُ أهلِ الزّيْغِ: إن (من) في موضع نصبٍ اسمٌ للمُسِرِّين والجاهرين ليُخْرج الكلامُ عن عمومِه ويُدْفع عمومُ الخلْقِ عن الله تعالى، ولو كان كما زعم لقال: ألا يعلمُ ما خلق لأنه إنما تقدّم ذِكْرُ ما تُكِنُّ الصدورُ فهو في موضعِ (ما) ولو أتتْ (ما) في موضعِ (من) لكان فيه أيضا بيانُ العموم: أنّ اللّه خالقُ كلِّ شيءٍ مِنْ أقوال الخلقِ أسرُّوها أو أظهرُها خيرا كانتْ أو شرّا، ويُقوِّي ذلك {إِنّهُ علِيمٌ بِذاتِ الصدور}، ولم يقلْ: عليمٌ بالمُسِرِّين والمجاهرين وتكون (ما) في موضع نصب، وإنما يُخْرِجُ الآية مِنْ هذا العموم إذا جعلْت (من) في موضعِ نصبٍ اسما للأُناسِ المخاطبين قبْل هذه الآيةِ، وقوله: {بذات الصدورِ} يمنعُ مِنْ ذلك. انتهى. ولا أدْري كيف يلْزمُ ما قاله مكيٌّ بالإِعرابِ الذي ذكره والمعنى الذي أبداه؟ وقد قال بهذا القول أعني الإِعراب الثاني جماعةٌ من المحققين ولم يُبالوا بما ذكره لعدمِ إفهامِ الآية إياه.
وقال الزمخشري بعد كلامٍ ذكره: ثم أنكر ألاّ يُحيط علما بالمُضْمر والمُسرِّ والمُجْهرِ منْ خلق الأشياء، وحالُه أنه اللطيفُ الخبيرُ المتوصِّلُ عِلْمُه إلى ما ظهر وما بطن. ويجوز أنْ يكون {منْ خلق} منصوبا بمعنى: ألا يعلمُ مخْلوقه، وهذه حالُه. ثم قال: فإنْ قلت: قدّرْت في {ألا يعْلمُ} مفعولا على معنى: ألا يعلمُ ذلك المذكور مِمّا أُضْمِر في القلب وأُظْهِر باللسان منْ خلق؟ فهلا جعلْته مثل قولهم: (هو يُعْطي ويمنع)، وهلا كان المعنى: ألا يكونُ عالما منْ هو خالقٌ لأن الخالق لا يصِحُّ إلاّ مع العِلْم؟ قلت: أبتْ ذلك الحالُ التي هي قوله: {وهُو اللطيف الخبير} لأنّك لو قلت: ألا يكون عالما منْ هو خالقٌ وهو اللطيفُ الخبيرُ لم يكن معنى صحيحا؛ لأنّ {ألا يعْلمُ} معتمِدٌ على الحالِ والشيءُ لا يُوقّتُ بنفسِهِ، فلا يقال: (ألا يعلمُ وهو عالمٌ، ولكن ألا يعلم كذا، وهو عالمٌ بكلِّ شيءٍ).
{هُو الّذِي جعل لكُمُ الْأرْض ذلُولا فامْشُوا فِي مناكِبِها وكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وإِليْهِ النُّشُورُ (15)}
قوله: {ذلُولا}: مفعولٌ ثانٍ، أو حالٌ. وذلول فعُول للمبالغةِ مِنْ ذلّ يذِلُّ فهو ذالٌّ كقوله: دابّةٌ ذلولٌ بيِّنةُ الذّلِّ بالكسرِ، ورجلٌ ذلُولٌ بيِّنُ الذُّلِّ بالضم. وقال ابن عطية: ذلول فعُول بمعنى مفْعول أي: مذْلولة، فهي ك ركوب وحلوب. قال الشيخ: وليس بمعنى مفْعول لأنّ فِعْله قاصِرٌ، وإنما يُعدّى بالهمزةِ كقوله تعالى: {وتُذِلُّ من تشاءُ} [آل عمران: 26] أو بالتضعيفِ كقوله: {وذلّلْناها لهُمْ} [يس: 72]، وقوله: (أي مذْلولة) يظهر أنّه خطأٌ. انتهى. يعني: حيث استعمل اسم المفعولِ تامّا مِنْ فِعْلٍ قاصرٍ، وهي مناقشةٌ لفظيةٌ.
قوله: {مناكِبِها} استعارةٌ حسنة جدا. وقال الزمخشري: مثلٌ لِفرْطِ التذليل ومجاوزتِهِ الغاية؛ لأن المنْكِبيْن وملتقاهما من الغارِبِ أرقُّ شيءٍ مِن البعير وأنْبأه عن أنْ يطأه الراكبُ بقدمِه ويعْتمد عليه، فإذا جعلها في الذُّلِّ بحيث يُمشى في مناكبها لم يتْرُكْ.
{أأمِنْتُمْ منْ فِي السّماءِ أنْ يخْسِف بِكُمُ الْأرْض فإِذا هِي تمُورُ (16)}
قوله: {أأمِنتُمْ}: قد تقدّم اختلافُ القراء في الهمزتيْن المفتوحتين نحو {أأنذرْتهُمْ} [البقرة: 6] تحقيقا وتخفيفا وإدخالِ ألفٍ بينهما وعدمِه في البقرة، وأن قُنْبلا يقرأ هنا بإبدالِ الهمزة الأولى واوا في الوصل. فيقول: {وإِليْهِ النشور} و{أمِنْتُمْ} وهو على صلِه مِنْ تسهيلِ الثانيةِ بين بين وعدمِ ألفٍ بينهما، وأمّا إذا ابتدأ فيُحقِّق الأولى ويُسهِّلُ الثانية بين بين على ما تقدّم، ولم يُبْدل الأولى واوا لزوالِ مُوجِبه وهو انضمامُ ما قبلها وهي مفتوحةٌ نحو: مُوجّل ويُواخِذُكم، وهذا قد مضى في سورة الأعراف عند قوله: {قال فِرْعوْنُ آمنتُمْ} [الأعراف: 123] وإنما أعدْتُه بيانا وتذكيرا.
قوله: {مّن فِي السماء}، مفعولُ {أمِنْتُم}، وفي الكلامِ حذْفُ مضافٍ أي: أمِنْتُمْ خالق منْ في السماوات. وقيل: (في) بمعنى على أي: على السماء، وإنما احتاج القائلُ بهذيْن إلى ذلك لأنه اعتقد أن (من) واقعةٌ على الباري تعالى وهو الظاهرُ، وثبت بالدليل القطعيِّ أنه ليس بمتحيِّزٍ لئلا يلزم التجسيمُ. ولا حاجة إلى ذلك فإن (من) هنا المرادُ بها الملائكةُ سكانُ السماء، وهم الذين يتولّوْن الرحمة والنِّقْمة. وقيل: خُوطبوا بذلك على اعتقادِهم، فإنّ القوم كانوا مُجسِّمة مشبِّهة، والذي تقدّم أحسنُ.
وقوله: {أن يخْسِف} و{أنْ يرسل} فيه وجهان، أحدُهما: أنهما بدلان مِنْ {منْ في السماء} بدلُ اشتمال، أي: أمِنْتُمْ خسْفه وإرساله، كذا قاله أبو البقاء. والثاني: أنْ يكون على حذْفِ (من) أي: أمِنْتُم مِن الخسْفِ والإِرسالِ، والأولُ أظهرُ. وقد تقدّم أنّ {نذير} و{نكير} مصدران بمعنى الإِنكار والإِنذار. وأثبت ورش يا (نذيري) وقْفا وحذفها وصْلا، وحذفها الباقون في الحاليْن.
{أولمْ يروْا إِلى الطّيْرِ فوْقهُمْ صافّاتٍ ويقْبِضْن ما يُمْسِكُهُنّ إِلّا الرّحْمنُ إِنّهُ بِكُلِّ شيْءٍ بصِيرٌ (19)}
قوله: {صافّاتٍ}: يجوز أنْ يكون حالا مِن {الطير} وأنْ يكون حالا مِن ضمير {فوقهم} إذا جعلْناه حالا فتكونُ متداخِلة. و{فوقهم} ظرفٌ لصافّات على الأولى أو ل {يروْا}.
قوله: {ويقْبِضْن} عطف الفعل على الاسمِ لأنّه بمعناه أي: وقابضاتٍ، فالفعلُ هنا مؤولٌ بالاسمِ عكس قوله: {إِنّ المصدقين والمصدقات وأقْرضُواْ} [الحديد: 18] فإن الاسم هناك مؤولٌ بالفعلِ. وقد تقدّم الاعتراضُ على ذلك. وقول أبي البقاء: معطوف على اسم الفاعل، حمْلا على المعنى أي: يصْفِفْن ويقْبِضْن أي: صافّاتٍ وقابِضاتٍ. لا حاجة إلى تقديره: يصْفِفْن ويقْبضْن؛ لأن الموضع للاسمِ فلا نُؤوِّلُه بالفعل. وقال الشيخ: وعطف الفعل على الاسم لمّا كان في معناه، ومثلُه قوله تعالى: {فالمغيرات صُبْحا فأثرْن} [العاديات: 3-4] عطف الفعل على الاسم لمّا كان المعنى: فاللاتي أغرْن فأثرْن، ومثلُ هذا العطفِ فصيحٌ وكذا عكسُه، إلاّ عند السهيليِّ فإنه قبيحٌ نحو قوله:
بات يُغشِّيها بعضْبٍ باترٍ ** يقْصِدُ في أسْوُقِها وجائِرُ

أي: قاصدٌ في أسْوُقِها وجائر. انتهى، هو مثلُه في عطفِ الفعلِ على اسمٍ، إلاّ أنّ الاسم فيه مؤولٌ بالفعلِ عكس هذه الآيةِ. ومفعولُ {يقْبِضْن} محذوفٌ أي: ويقْبِضْنِ أجنحتهُنّ، قاله أبو البقاء ولم يُقدِّرْ ل {صافّاتٍ} مفعولا كأنه زعم أنّ الاصطفاف في أنفسِها أي: مصطفّة. والظاهرُ أنّ المعنى: صافّاتٍ أجنحتها وقابضتها، فالصّفُّ والقبْضُ منها لأجنحتِها.
وكذلك قال الزمخشريُّ: (صافّاتٍ باسِطاتٍ أجنحتهن) ثم قال: فإنْ قلت لِم قال: ويقبضْن ولم يقُلْ: وقابضاتٍ؟ قلت: لأنّ الطيران هو صفُّ الأجنحةِ؛ لأنّ الطيران في الهواءِ كالسِّباحةِ في الماءِ، والأصلُ في السباحةِ مدُّ الأطرافِ وبسْطُها، وأمّا القبْضُ فطارِئٌ على البسْطِ للاستظهارِ به على التحرُّكِ، فجيء بما هو طارِئٌ غيرُ أصلٍ بلفظِ الفعلِ على معنى أنّهن صافاتٌ، ويكونُ منهنّ القبْضُ تارة بعد تارة، كما يكون من السّابح.
قوله: {ما يُمْسِكُهُنّ} يجوزُ أنْ تكون الجملة مستأنفة، وأن تكون حالا من الضمير في {يقْبِضْن} قاله أبو البقاء، والأولُ هو الظاهرُ. وقرأ الزهري بتشديدِ السينِ.
أمّنْ هذا الّذِي هُو جُنْدٌ لكُمْ ينْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرّحْمنِ إِنِ الْكافِرُون إِلّا فِي غُرُورٍ (20)
قوله: {أمّن}: العامّةُ بتشديد الميمِ على إدغامِ ميم {أم} في ميم (من)، و(أم) بمعنى بل؛ لأنّ بعدها اسم استفهامٍ، وهو مبتدأٌ، خبرُه اسمُ الإِشارة. وقرأ طلحة بتخفيفِ الأولِ وتثقيل الثاني قال أبو الفضل: معناه أهذا الذي هو جندٌ لكم أم الذي يرْزُقكم. و{ينْصُرُكم} صفةٌ لـ: {جند}.
{أمّنْ هذا الّذِي يرْزُقُكُمْ إِنْ أمْسك رِزْقهُ بلْ لجُّوا فِي عُتُوٍّ ونُفُورٍ (21)}
قوله: {إِنْ أمْسك}: شرطٌ جوابُه محذوفٌ للدلالةِ عليه أي: فمنْ يرْزُقكم غيرُه؟ وقدّر الزمخشريُّ شرطا بعد قوله: {أمّن هذا الذي هو جندٌ لكم}، تقديرُه: إنْ أرْسل عليكم عذابه. ولا حاجة له صناعة.
{أفمنْ يمْشِي مُكِبّا على وجْهِهِ أهْدى أمّنْ يمْشِي سوِيّا على صِراطٍ مُسْتقِيمٍ (22)}
قوله: {مُكِبّا}: حالِ مِنْ فاعلِ {يمْشي}. و(أكبّ) مطاوعُ كبّه يقال: كببتُه فأكبّ. قال الزمخشري: هو من الغرائبِ والشواذ ونحوُه: قشعتِ الريحُ السّحاب فأقْشع، ولا شيء من بناءِ أفْعل مطاوعا، ولا يُتْقِنُ نحو هذا إلاّ حملةُ كتابِ سيبويهِ، وإنما أكبّ، مِنْ بابِ أنْفض وألام، ومعناه: دخل في الكبِّ وصار ذا كبٍّ، وكذلك أقْشع السحابُ: دخل في القشْعِ، ومطاوعُ كبّ وقشع انكبّ وانْقشع.
قال الشيخ: {ومُكِبّا} حالٌ مِنْ (أكبّ) وهو لا يتعدّى، وكبّ متعدٍ قال تعالى: {فكُبّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار} [النمل: 90] والهمزةُ للدخولِ في الشيءِ أو للصيرورةِ ومطاوعُ كبّ: انْكبّ. تقول: كببْتُه فانكبّ. قال الزمخشري: (ولا شيء مِنْ بناءِ أفْعل) إلى قوله: (كتاب سيبويه) انتهى، وهذا الرجلُ كثيرُ التبجُّح بكتاب سيبويهِ، وكم مِنْ نصٍّ في كتابِ سيبويه عمي بصرُه وبصيرتُه عنه، حتى إن الإِمام أبا الحجاج يوسف بن معزوزٍ صنّف كتابا، يذكر فيه ما غلِط الزمخشريُّ فيه وما جهِله من كتاب سيبويه. انتهى ما قاله الشيخُ.
وانظر إلى هذا الرجلِ: كيف أخذ كلامه الذي أسْلفْتُه عنه، طرّز به عبارته حرفا بحرف، ثم أخذ يُنْحي عليه بإساءةِ الأدب، جزاء ما لقّنه تِلك الكلماتِ الرائعة وجعله يقول: إن مطاوِع كبّ انْكبّ لا أكبّ وإن الهمزة في أكبّ للصيرورةِ، أو للدخولِ في الشيء، وبالله لو بقِي دهره غير مُلقّنٍ إياها لما قالها أبدا، ثم أخذ يذكُر عن إنسانٍ مع أبي القاسم كالسُّها مع القمر أنّه غلّطه في نصوصِ كتابِ سيبويه، اللّهُ أعلمُ بصحتِها. قال الشاعر:
وكم مِنْ عائبٍ قولا صحيحا ** وآفتُهُ من الفهْمِ السّقيمِ

وعلى تقديرِ التسليمِ فالفاضلُ منْ عدّتْ سقطاتُه.
وقوله: {أمّن يمْشِي} هو المعادِلُ ل {أفمن يمْشِي مُكِبّا}. وقال أبو البقاء: و{أهْدى} خبرُ (منْ يمشي)، وخبرُ (من) الثانيةِ محذوفٌ. يعني: أنّ الأصل: أمّنْ يمشي سويّا أهْدى، ولا حاجة إلى ذلك، لأنّ قوله: (أزيدٌ قائمٌ أم عمروٌ) لا يُحتاج فيه من حيث الصناعةُ إلى حذْفِ الخبرِ، بل تقول: هو معطوف على (زيد) عطْف المفرداتِ، ووحّد الخبر لأنّ (أم) لأحدِ الشيئين.
{قُلْ هُو الّذِي أنْشأكُمْ وجعل لكُمُ السّمْع والْأبْصار والْأفْئِدة قلِيلا ما تشْكُرُون (23)}
قوله: {قلِيلا}: نعتُ مصدرٍ محذوفٍ أو حالٌ من ضميرِ المصدرِ كما هو رأْيُ سيبويه و(ما) مزيدةٌ أي: تشْكرون قليلا. والجملة من {تشْكرون}: إمّا مستأنفةٌ، وهو الظاهرُ، وإمّا حالٌ مقدرةٌ لأنهم حال الجعْلِ غيرُ شاكرين. والمرادُ بالقِلّة العدمُ أو حقيقتُها.
{فلمّا رأوْهُ زُلْفة سِيئتْ وُجُوهُ الّذِين كفرُوا وقِيل هذا الّذِي كُنْتُمْ بِهِ تدّعُون (27)}
قوله: {رأوْهُ}: أي: الموعود أو العذاب زُلْفة أي: قريبا، فهو حالٌ ولابد مِن حذْفِ مضافٍ أي: ذا زُلْفةٍ، أو جُعِل نفس الزُّلْفةِ مبالغة. وقيل: {زُلْفة} تقديرُه: مكانا ذا زُلْفةٍ فينتصِبُ انتصاب المصدرِ.
قوله: {سِيئتْ} الأصلُ: ساء أي: أحزن وجوههم العذابُ ورؤيتُه. ثم بُنِي للمفعول. و{ساء} هنا ليستْ المرادِفة ل {بِئْس} كما عرفْته فميا تقدّم غير مرةٍ. وأشمّ كسرة السينِ الضمّ نافعٌ وابنُ عامرٍ والكسائيُّ، كما فعلوا ذلك في {سياء بِهِمْ} [هود: 77] في هود، وقد تقدّم، والباقون بإخلاصِ الكسرِ، وقد تقدّم في أولِ البقرةِ تحقيقُ هذا وتصريفُه، وأنّ فيه لغاتٍ، عند قوله: {وإِذا قِيل لهُمْ} [البقرة: 11].
قوله: {تدّعُون} العامّةُ على تشديدِ الدالِ مفتوحة. فقيل: من الدّعْوى أي: تدّعُون أنه لا جنة ولا نار، قاله الحسن. وقيل: من الدعاءِ أي: تطْلبونه وتستعجلونه. وقرأ الحسن وقتادة وأبو رجاء والضحاك ويعقوبُ وأبو زيدٍ وابنُ أبي عبلة ونافعٌ في روايةِ الأصمعيِّ بسكونِ الدالِ، وهي مؤيِّدةٌ للقول: إنّها من الدعاء في قراءة العامّة.
{قُلْ هُو الرّحْمنُ آمنّا بِهِ وعليْهِ توكّلْنا فستعْلمُون منْ هُو فِي ضلالٍ مُبِينٍ (29)}
قوله: {آمنّا بِهِ وعليْهِ توكّلْنا}: تقدّم: لِم أُخِّر متعلّقُ الإِيمانِ، وقُدِّم مُتعلّقُ التوكلِ؟ وأنّ التقديم يُفيدُ الاختصاص. وقرأ الكسائيُّ {فسيعْلمون} بياءِ الغيْبة نظرا إلى قوله: {الكافرين}. والباقون بالخطاب: إمّا على الوعيدِ، وإمّا على الالتفاتِ من الغيْبة المرادةِ في قراءة الكسائيِّ.
{قُلْ أرأيْتُمْ إِنْ أصْبح ماؤُكُمْ غوْرا فمنْ يأْتِيكُمْ بِماءٍ معِينٍ (30)}
قوله: {غوْرا}: خبرُ {أصبح} وجوّز أبو البقاء أنْ يكون حالا على تمامِ {أصبح}، ولكنه استبعده، وحكى أنه قُرئ {غُؤْوْرا} بضم الغينِ وهمزةٍ مضمومةٍ، ثم واوٍ ساكنةٍ على فُعُول، وجعل الهمزة منقبلة عن واوٍ مضمومةٍ. اهـ.